الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (56): {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)}{فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَأُعَذّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} تفسير للحكم المدلول عليه بقوله سبحانه: {فاحكم} [آل عمران: 55] وتفصيل له على سبيل التقسيم بعد الجمع، وإلى ذلك ذهب كثير من المحققين، واعترض بأن الحكم مرتب على الرجوع إلى الله تعالى وذلك في القيامة لا محالة، فكيف يصح تفسيره بالعذاب المقيد بقوله تعالى: {فِى الدنيا والاخرة}؟ا وأجيب بوجوه الأول: أن المقصود التأبيد وعدم الانقطاع من غير نظر إلى الدنيا والآخرة، الثاني: أن المراد بالدنيا والآخرة مفهومهما اللغوي أي الأول والآخر، ويكون ذلك عبارة عن الدوام وهذا أبعد من الأول جدًا. الثالث: ما ذكر صاحب الكشف من أن المرجع أعم من الدنيوي والأخروي، وقوله سبحانه: {إلى يَوْمِ القيامة} [آل عمران: 55] غاية الفوقية لا غاية الجعل، والرجوع متراخ عن الجعل وهو غير محدود على وزان قولك: سأعيرك سكنى هذا البيت إلى شهر ثم أخلع عليك بثوب من شأنه كذا وكذا فإنه يلزم تأخر الخلع عن الإعارة لا الخلع، وعلى هذا توفية الأجر لِغُنْمِ الدارين، ولا يخفى أن في لفظ {كُنتُمْ} في قوله جل وعلا: {فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران: 55] بعض نبوة عن هذا المعنى، وأن المعنى أحكم بينكم في الآخرة فيما كنتم فيه تختلفون في الدنيا..الرابع: أن العذاب في الدنيا هو الفوقية عليهم، والمعنى أضم إلى عذاب الفوقية السابقة عذاب الآخرة قال في الكشف: وفيه تقابل حسن وإن هذه الفوقية مقدمة عذاب الآخرة ومؤكدته، وإدماج أنها فوقية عدل لا تسلط وجود، ولا يخفى أنه بعيد من اللفظ جدًا إذ معنى أعذبه في الدنيا والآخرة ليس إلا أني أفعل عذاب الدارين إلا أن يقال: إن اتخاذ الكل لا يلزم أن يكون باتخاذ كل جزء فيجوز أن يفعل في الآخرة تعذيب الدارين بأن يفعل به عذاب الآخرة وقد فعل في الدنيا عذاب الدنيا فيكون تمام العذابين في الآخرة..الخامس: أن في الدنيا والآخرة متعلق بشديد تشديدًا لأمر الشدة وليس بشيء كما لا يخفى، والأولى من هذا كله ما ذكره بعض المحققين أن يحمل معنى {ثُمَّ} [آل عمران: 55] على التراخي الرتبي والترقي من كلام إلى آخر لا على التراخي في الزمان فحينئذٍ لا يلزم أن يكون رجوعهم إلى الله تعالى متأخرًا عن الجعل في الزمان سواء كان قوله جل شأنه: {إلى يَوْمِ القيامة} [آل عمران: 55] غاية للجعل أو الفوقية فلا محذور، ثم إن المراد بالعذاب في الدنيا إذلالهم بالقتل والأسر والسبي وأخذ الجزية ونحو ذلك، ومن لم يفعل معه شيء من وجوه الإذلال فهو على وجل إذ يعلم أن الإسلام يطلبه وكفى بذلك عذابًا، وبالعذاب في الآخرة عقاب الأبد في النار {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} أي أعوان يدفعون عنهم عذاب الله، وصيغة الجمع كما قال مولانا مفتي الروم لمقابلة ضمير الجمع أي ليس لكل واحد منهم ناصر واحد..تفسير الآية رقم (57): {وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)}{وَأَمَّا الذين ءامَنُوا وَعَمِلُواْ الصالحات} بيان لحال القسم الثاني، وبدأ بقسم {الذين كَفَرُواْ} [آل عمران: 56] لأن ذكر ما قبله من حكم الله تعالى بينهم أول ما يتبادر منه في بادئ النظر التهديد فناسب البداءة بهم ولأنهم أقرب في الذكر لقوله تعالى: {فَوْقَ الذين كَفَرُواْ} [آل عمران: 55] ولكون الكلام مع اليهود الذين كفروا بعيسى عليه السلام وهموا بقتله {فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي فيوفر عليهم ويتمم جزاء أعمالهم القلبية والقالبية ويعطيهم ثواب ذلك وافيًا من غير نقص. وزعم بعضهم أن توفية الأجور هي قسم المنازل في الجنة والظاهر أنها أعم من ذلك وعلق التوفية على الإيمان والعمل الصالح ولم يعلق العذاب بسوى الكفر تنبيها على درجة الكمال في الإيمان ودعاءًا إليها وإيذانًا بعظم قبح الكفر، وقرأ حفص. ورويس عن يعقوب فيوفيهم بياء الغيبة، وزاد رويس ضم الهاء، وقرأ الباقون بالنون جريًا على سنن العظمة والكبرياء، ولعل وجه الالتفات إلى الغيبة على القراءة الأولى الإيذان بأن توفية الأجر مما لا يقتضي لها نصب نفس لأنها من آثار الرحمة الواسعة ولا كذلك العذاب، والموصول في الآيتين مبتدأ خبره ما بعد الفاء، وجوز أن يكون منصوبًا بفعل محذوف يفسره ما ذكر، وموضع المحذوف بعد الصلة كما قال أبو البقاء ولا يجوز أن يقدر قبل الموصول لأن أما لا يليها الفعل. {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} أي لا يريد تعظيمهم ولا يرحمهم ولا يثني عليهم، أو المراد يبغضهم على ما هو الشائع في مثل هذه العبارة، والجملة تذييل لما قبل مقرر لمضمونه..تفسير الآية رقم (58): {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)}{ذلك} أي المذكور من أمر عيسى عليه السلام والإتيان بما يدل على البعد للإشارة إلى عظم شأن المشار إليه وبعد منزلته في الشرف. {نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} أي نسرده ونذكره شيئًا بعد شيء، والمراد تلوناه إلا أنه عبر بالمضارع استحضارًا للصورة الحاصلة اعتناءًا بها، وقيل: يمكن الحمل على الظاهر لأن قصة عيسى عليه السلام لم يفرغ منها بعد {مِنَ الايات} أي الحجج الدالة على صدق نبوتك إذ أعلمتهم بما لا يعلمه إلا قارئ كتاب، أو معلم ولست بواحد منهما فلم يبق إلا أنك قد عرفته من طريق الوحي {والذكر} أي القرآن، وقيل: اللوح المحفوظ وتفسيره به لاشتماله عليه، و{مِنْ} تبعيضية على الأول، وابتدائية على الثاني وحملها على البيان وإرادة بعض مخصوص من القرآن بعيد {الحكيم} أي المحكم المتقن نظمه، أو الممنوع من الباطل، أو صاحب الحكمة، وحينئذ يكون استعماله لما صدر عنه مما اشتمل على حكمته؛ إما على وجه الإستعارة التبعية في لفظ حكيم، أو الإسناد المجازي بأن أسند للذكر ما هو لسببه وصاحبه، وجعله من باب الإستعارة المكنية التخييلية بأن شبه القرآن بناطق بالحكمة وأثبت له الوصف بحكيم تخييلا محوج إلى تكلف مشهور في دفع شبهة ذكر الطرفين حينئذ فتأمل، وجوز في الآية أوجه من الإعراب، الأول: أن ذلك مبتدأ، و{نَتْلُوهُ} خبره، و{عَلَيْكَ} متعلق بالخبر، و{مِنَ الايات} حال من الضمير المنصوب، أو خبر بعد خبر، أو هو الخبر وما بينهما حال من اسم الاشارة على أن العامل فيه معنى الإشارة لا الجار والمجرور قيل: لأن الحال لا يتقدم العامل المعنوي، الثاني: أن يكون ذلك خبرًا لمحذوف أي: الأمر ذلك، و{نَتْلُوهُ} في موضع الحال من {ذلك} و{مِنَ الايات} حال من الهاء، الثالث: أن يكون ذلك في موضع نصب بفعل دل عليه نتلو فيكون {مِنَ الايات} حالا من الهاء أيضًا..تفسير الآية رقم (59): {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)}{إِنَّ مَثَلَ عيسى} ذكر غير واحد: أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك تشتم صاحبنا؟ قال: «ما أقول؟» قالوا: تقول: إنه عبد الله قال: «أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول» فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانًا قط من غير أب فإن كنت صادقًا فأرنا مثله فأنزل الله تعالى هذه الآية. وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يسوع عن أبيه عن جده «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه {طس} [النمل: 1] سليمان: بسم إله إبراهيم وإسحق ويعقوب من محمد رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران إن أسلمتم فإني أحمد الله إليكم إله إبراهيم وإسحق ويعقوب أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية فإن أبيتم فقد أذنتم بحرب والسلام، فلما قرأ الأسقف الكتاب فزع به وذعر ذعرًا شديدًا فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة فدفع إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه فقال له الأسقف: ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله تعالى إبراهيم في ذرية إسمعيل من النبوة فما يؤمن أن يكون هذا الرجل نبيًا وليس لي في النبوة رأي لو كان أمر من أمر الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك فبعث الأسقف إلى واحد بعد واحد من أهل نجران فكلهم قال مثل قول شرحبيل فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل وعبد الله بن شرحبيل، وحيار بن قنص فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق الوفد حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم وسألوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا: ما تقول في عيسى ابن مريم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقال لي في عيسى صبح الغداة فأنزل الله هذه الآية {إِنَّ مَثَلَ عيسى} إلى قوله سبحانه: {فَنَجْعَل لَّعْنَتُ الله عَلَى الكاذبين} [آل عمران: 61] فأبوا أن يقروا بذلك فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملًا على الحسن والحسين في خميلة له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة وله يومئذ عدة نسوة فقال شرحبيل لصاحبيه: إنى أرى أمرًا ثقيلًا إن كان هذا الرجل نبيًا مرسلًا فتلاعناه لا يبقى على ظهر الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك فقالا له: ما رأيك؟ فقال: رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلًا لا يحكم شططًا أبدًا فقالا له: أنت وذاك فتلقى شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت خيرًا من ملاعنتك قال: وما هو؟ قال: حكمك اليوم إلى الليل وليلك إلى الصباح فما حكمت فينا فهو جائز فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلاعنهم وصالحهم على الجزية» وروي غير ذلك كما سيأتي قريبًا، والمثل هنا ليس هو المثل المستعمل في التشبيه والكاف زائدة كما قيل به بل عنى الحال والصفة العجيبة أي: إن صفة عيسى عندَ الله أي: في تقديره وحكمه، أو فيما غاب عنكم ولم تطلعوا على كنهه، والظرف متعلق فيما تعلق به الجار في قوله سبحانه: {كَمَثَلِ ءادَمَ} أي كصفته وحاله العجيبة التي لا يرتاب فيها مرتاب {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} جملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب مبينة لوجه الشبه باعتبار أن في كل الخروج عن العادة وعدم استكمال الطرفين، ويحتمل أنه جيء بها لبيان أن المشبه به أغرب وأخرق للعادة فيكون ذلك أقطع للخصم وأحسم للمادة شبهته، و{مِنْ} لابتداء الغاية متعلقة بما عندها، والضمير المنصوب لآدم والمعنى ابتدأ خلق قالبه من هذا الجنس {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} أي صر بشرًا فصار، فالتراخي على هذا زماني إذ بين إنشائه مما ذكر وإيجاد الروح فيه وتصييره لحمًا ودمًا زمان طويل، فقد روي أنه بعد أن خلق قالبه بقي ملقى على باب الجنة أربعين سنة لم تنفخ فيه الروح؛ والتعبير بالمضارع مع أن المقام مقام المضي لتصوير ذلك الأمر الكامل بصورة المشاهد الذي يقع الآن إيذانًا بأنه من الأمور المستغربة العجيبة الشأن، وجوز أن يكون التعبير بذلك لما أن الكون مستقبل بالنظر إلى ما قبله، وذهب كثير من المحققين إلى أن {ثُمَّ} للتراخي في الأخبار لا في المخبر به، وحملوا الكلام على ظاهره، ولا يضر تقدم القول على الخلق في هذا الترتيب والتراخي كما لا يخفى، والضمير المجرور عائد على ما عاد عليه الضمير المنصوب، والقول بأنه عائد على عيسى ليس بشيء لما فيه من التفكيك الذي لا داعي إليه ولا قرينة تدل عليه، قيل: وفي الآية دلالة على صحة النظر والاستدلال لأنه سبحانه احتج على النصارى وأثبت جواز خلق عيسى عليه السلام من غير أب بخلق آدم عليه السلام من غير أب ولا أم، ثم إن الظاهر أن عيسى عليه السلام خلقه الله سبحانه من نطفة مريم عليها السلام بجعلها قابلة لذلك ومستعدة له كما أشرنا إليه فيما تقدم. والقول بأنه خلق من الهواء كما خلق آدم من التراب مما لا مستند له من عقل ولا نقل {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} [الأنبياء: 12] لا يدل عليه بوجه أصلا..تفسير الآية رقم (60): {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)}{الحق مِن رَّبّكَ} خبر لمحذوف أي هو الحق، وهو راجع إلى البيان، والقصص المذكور سابقًا. والجار والمجرور حال من الضمير في الخبر، وجوز أن يكون {الحق} مبتدأ، و{مِن رَبّكَ} خبره، ورجح الأول بأن المقصود الدلالة على كون عيسى مخلوقًا كآدم عليهما السلام هو {الحق} لا ما يزعمه النصارى، وتطبيق كونهما مبتدأ وخبرًا على هذا المعنى لا يتأتي إلا بتكلف إرادة أن كل حق، أو جنسه من الله تعالى، ومن جملته هذا الشأن، أو حمل اللام على العهد بإرادة {الحق} المذكور، ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية من الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من اللطافة الظاهرة {فَلاَ تَكُنْ مّن الممترين} خطاب له صلى الله عليه وسلم، ولا يضر فيه استحالة وقوع الامتراء منه عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [يونس: 105] بل قد ذكروا في هذا الأسلوب فائدتين. إحداهما: أنه صلى الله عليه وسلم إذا سمع مثل هذا الخطاب تحركت منه الأريحية فيزداد في الثبات على اليقين نورًا على نور وثانيتهما: أن السامع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم فينزع وينزجر عما يورث الامتراء لأنه صلى الله عليه وسلم مع جلالته التي لا تصل إليها الأماني إذا خوطب ثله فما يظن بغيره ففي ذلك زيادة ثبات له صلوات الله تعالى وسلامه عليه ولطفه بغيره، وجوز أن يكون خطابًا لكل من يقف عليه ويصلح للخطاب.
|